فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يمثل لنا مراحل فقدان الأمانة. وينبهنا: احذروا من أن تتسلل الانحرافات بنومة قليلة، ثم إلى أخرى أكبر منها، ثم إلى ثالثة أكبر وأوسع. وشرحنا ذلك بمثل الانحراف المقصود لقطارات السكك الحديدية.
إن قوله الحق سبحانه: {يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} كي لا ينفردوا- وحدهم- بالضلال، والحق سبحانه يعطينا مناعة ضد كلامهم، فهم لهم حظّ من علم الكتاب وهذا قد يجعلنا نحسن الظن بأن لهم صلة بالسماء؛ لأنهم أتباع رسل، فسبحانه يوضح لنا: هؤلاء يريدون أن تضلوا السبيل ويتخذوا من نصيب الكتاب الذي عندهم وسيلة كي يضلوكم.
وفي عصرنا نجد أن أعدى أعداء أي عقيدة ليسوا أعداءها الظاهرين وإنما أعداؤها من أنفسهم. لأن عدوّي الظاهر الكافر يجابهني وأنا واثق أنه يريد أن يدس لديني ويدلس ويحرف فيه، لكن عندما يكون هناك مسلم مثلي يأتي ليكلمني فربما آخذ كلامه على أنه مسلم؛ ولذلك فخصوم الإسلام يئسوا أن يواجهوا الإسلام مواجهة صريحة؛ ولذلك نجد الغرب قد توقف الآن عن مسألة الاستشراق، وما بقي من الاستشراق فهذا هو القديم. وكان المستشرق من هؤلاء يؤلف كتابًا؛ ساعة يقرأه المسلم قد يقول: إنه رجل يعمل على خدمة العلم وعلى خدمة الثقافة، وخدمة سنة رسول الله. وقد يكتفي هذا المؤلف بأن يدس في الكتاب الواحد فكرة واحدة بعد أن يجعل القارئ يثق فيه.
وعندما علموا أننا فطنا لهذا دخلوا علينا بالمستغربين. وهم أناس منا ذهبوا إلى الغرب فأخذوا الداءات من هناك وجاءوا فبثوها في مناهج تعليمنا، وفي برامجنا، وفي وسائل الإعلام، وفي الصحافة، والواحد من هؤلاء المستغربين يفعل ذلك وهو مسلم، فيكون محل ثقة، ووجد الغرب أيسر طريق لهم الآن أن يدخلوا إلينا عن طريق بعض المسلمين الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب؛ لأن الإنسان سيكون مطمئنًا إلى أن هؤلاء مسلمون؛ فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا: أن خصومك الظاهرين أهون عليك من خصومك المنسوبين إلى دينك؛ لأن هؤلاء يدخلون عليك بالثقة الأولى، ثقة انتسابهم للإسلام؛ ولذلك يوضح لنا ربنا هذا الأمر لأنه قد يتعب ويصيب المؤمنين بالعنت لذلك يقول: {أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ}. وهم يعيشون على هذه.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}.
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال: أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا؛ لأنه قد يكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العدوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون؛ لذلك يقول: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ}.
وجاء بها بعد قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} أي مخافة أن نقول: إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. وما دام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليًّا بعد ذلك، كما يقولون: كفاني فلانٌ؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول: لكنَّ فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي.
{وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا}.. نعم كفى به وليًّا لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2].
والولي دائمًا هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} إذن فهناك قريب، وهناك أيضًا نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله وليّ ونصير، فما دامت المسألة مسألة معركة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}، كأن الحق ينبهنا: إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا: إياكم أن تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا؟ لا تقولوا ذلك؛ لأن الله أعلمنا: أنا أنصركم بالرعب بأن أُلْقِيَ في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. وما دام سينصرنا بالرعب فهذه كافية؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب؛ يلقي عدوى سلاحه وأنا آخذه؛ ولذلك قال: اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل: أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ} [آل عمران: 151].
وما دام ألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {من الكتاب} فيه وَجْهَان:
أحدهما: أنه مُتَعِّق بمحْذُوفٍ، إذ هو صِفَة لـ {نصيبًا} فهو في مَحَلِّ نصبٍ.
والثاني: متعلِّق بـ {أوتوا} أي أُوتوا من الكِتاب نصيباَ، و{يشترون}: حالٌ، وفي صاحبها وَجْهَان:
أحدهما: أنه واو {أوتوا}.
والثاني: أنه المَوْصُول وهي على هذا حَالٌ مُقَدرة، والمُشْتَري به مَحْذُوف، أي: بالهُدَى، كما صرح به في مَوَاضِع، ومعنى {يشترون}: يستبدِلون الضَّلالة بالهُدَى.
قوله: {ويريدون} عطف على {يشترون}.
وقال النَّخْعِي: {وتريدون أن تضلوا} بتاء الخطاب، والمَعْنَى: تُرِيدُون أيها المؤمنون أن تدَّعو الصَّواب، وقرأ الحسن: {أن تَضِلُّوا} من أضل. وقرئ {أن تُضَلُّوا السبيل} بضم التَّاءِ وفتح الضَّادِ على ما لَمْ يُسَمّ فَاعِلُه، والسَّبيل مفعول به؛ كقولك: أخطأ الطَّريقَ، وليس بِظَرْف، وقيل: يتعدى بعن؛ تقول: ضلَلْت السَّبيل، وعن السَّبيل، ثم قال: {والله أعلم بأعدائكم} أي: أعْلَم بما في قُلُوبهم وصدورهم من العَدَاوة والبَغْضاء.
قوله: {وكفى بالله وليًا} تقدم الكلام عليه أوّل السُّورة، وكذا الكلام في المَنْصُوب بَعْده.
فإن قيل: ما فائدة تكرار الباء في قوله: {بالله} فذكروا وجوهًا:
أحدها: لَوْ قيل: كفى الله، يتصل الفِعْل بالفَاعِل ثم هاهنا زيدَت البَاء إيذَانًا بأن الكفاية من الله لَيْسَت كالكِفَايَة من غَيْره.
وثانيها: قال ابن السَّرَّاج: تقديره: كفى اكْتِفَاؤُه بالله وَليًّا، ولما ذكرت {كفى} دلَّ على الاكتفاءِ؛ كما تقول: من كذب كان شَرًّا له، أي: كان الكَذِبُ شرًّا له، فأضمرته لدلالة الفِعْل عليه.
وثالثها: قال ابنُ الخَطيب: البَاءُ في الأصْل للإلْصَاقِ، وإنما يَحْسُن في المؤثِّر لذي لا وَاسِطَة بَيْنَهُ وبين التَّأثِير، فلو قيل: كَفَى اللهُ، دلَّ ذلك على كَوْنَهَ فاعلًا لهذه الكِفَايَةِ، ولكن لا يَدُلُّ ذَلِك على أنَّهُ فعل بِواسِطَة أو غير وَاسِطَة، فإذا ذَكَرْت البَاء، دلَّ على أنه تعالى يَفْعَل بغير واسِطَة، بل هو تعالى يتكفَّل به ابتداء من غير واسطَة؛ كقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16]. اهـ. بتصرف يسير.

.تفسير الآية رقم (46):

قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به: {من الذين هادوا} ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله- ويجوز أن يكون استئنافًا بمعنى: بعضهم، أو منهم من-: {يحرفون الكلم} أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به {عن} ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال: {مواضعه} أي التي هي به أليق، فيتم ضلالهم وإضلالهم، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيدًا عن المغير أو قريبًا، فالذي في المائدة أخص.
ولما كان سبحانه وتعالى عالمًا بجميع تحريفهم، أشار إليه بالعطف على ما تقديره: فيقولون كذا ويقولون كذا: {ويقولون سمعنا} أي ما تقول: {وعصينا} موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديمًا، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمدًا ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم من العلم الرباني ليورثه ذلك شكًا في أمره وحيرة في شأنه {واسمع} حال كونك {غير مسمع} موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم: فلان أسمع فلانًا الكلام، وإنما يريدون الدعاء، كما يقال: اسمع لا سمعت! {وراعنا} موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم، وإنما يريدون الشتم بالرعونة؛ وقال الأصفهاني: ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي: راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزءًا برسول الله صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام، ولذلك قال: {ليًّا بألسنتهم} أي صرفًا لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإرادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة {وطعنًا في الدين} أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة.
ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة، بين ما كان عليهم لو وقفوا فقال قاطعًا جدالهم: {ولو أنهم قالوا} أي في الجواب له صلى الله عليه وسلم {سمعنا وأطعنا} أي بدل الكلمة الأولى {واسمع وانظرنا} بدل ما بعدها {لكان} أي هذا القول: {خيرًا لهم} أي من ذلك، لعدم استيجابهم الإثم {وأقوم} أي لعدم الاحتمال الذم {ولكن لعنهم الله} أي طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال، وأبعدهم عن الخير {بكفرهم} أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير، فلم يقولوا ذلك.
ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم قال: {فلا يؤمنون} أي يتجدد لهم إيمان {إلا قليلًا} أي منهم؛ استثناء من الواو، فإنهم يؤمنون، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره. اهـ.

.اللغة:

{راعنا} راقبنا وانظرنا، وهي كلمة سب في العبرية وكان اليهود يقولونها ويعنون بها معنى الرعونة.
{أقوم} أعدل وأصوب.
{نطمس} الطمس: المحو وإذهاب أثر الشيء.
{فتيلا} الفتيل: الخيط الذي في شق النواة.
{الجبت} اسم الصنم ثم صار مستعملا لكل باطل.
{الطاغوت} كل ما عبد من دون الله، من حجر أو بشر أو شيطان، وقيل: هو اسم للشيطان.
{نقيرا} النقير: النقطة التي على ظهر النواة.
{نصليهم} ندخلهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في متعلق قوله: {مِنَ الذين} وجوه:
الأول: أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب، والتقدير: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا، والثاني: أن يتعلق بقوله: {نَصِيرًا} والتقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، وهو كقوله: {ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} [الأنبياء: 77].